
عندما أُعلن في العاشر من أكتوبر ٢٠٢٥ أن ماريا كورينا ماتشادو هي الحائزة على جائزة نوبل للسلام لهذا العام، اهتزُّت دوائر السياسة والجدل الإعلامي، ليس فقط في أميركا اللاتينية بل على مستوى العالم (وفقًا للإعلان الرسمي من لجنة نوبل). وقد برّرت اللجنة اختيارها بأنها امرأة «تحافظ على لهيب الديمقراطية وسط ظلام متنامٍ» وتكافح من أجل انتقال سلمي وعادل من الاستبداد إلى نظام تمثيلي. (وفقًا لبيان لجنة نوبل الصادر في 10 أكتوبر 2025).
لكن هذه المرأة، التي وُصِفت بأنها صوت المعارضة المحوري في فنزويلا، ما تزال محاطة بأسرار ومزاعم وتحالفات مثيرة للنقاش. في هذا السرد الطويل سأحاول أن أُعيد تركيب الصورة كما يُمكن لنا أن نراها اليوم: من أصولها الاجتماعية، مرورًا بتحالفاتها السياسية المعلنة والسرية، إلى مواقفها من الصراع الدولي الراهن، ثمّ إعادة قراءة الجائزة نفسها في سياق يُمزج بين التكريم والنقد.
وُلدت ماريا كورينا ماتشادو عام 1967 في كراكاس، ونشأت في أسرة من الطبقة العليا، الأمر الذي مكّـنها منذ البداية من شبكة علاقات مالية وسياسية واسعة (كما تشير التقارير الصحفية التي بيّنت أن أصولها الاقتصادية تُعزى إلى علاقات تجارية قديمة في صناعة الفولاذ والنسيج). (وفقًا لوكالة رويترز التي تحدثت عن خلفيتها الاجتماعية)
لكن ليس الأصل وحده ما يُشكل الشخصية السياسية؛ فماتشادو انخرطت مبكرًا في منظمات المجتمع المدني، وأسست مؤسسات رقابية وتعزيز الشفافية في العمليات الانتخابية، وهي تلك الخطوة التي مهدت لظهورها في المشهد العام المعارض للنظام الحاكم في فنزويلا.
ما لا نجده في السجلات المفتوحة هو تأكيد موثوق لإحدى أكثر الروايات تداولًا بين خصومها: أنها تنتمي إلى ست عائلات إسبانية نُسبت إليها ثروات البلاد بعد الاستقلال، وأن هذه العائلات تشاركت السيطرة الاقتصادية والسياسية لسنوات طويلة. هذه الروايات تُروى في حوارات سياسية ومعارضة داخلية، لكنها لم تُدعم حتى اليوم بأدلة أكاديمية أو تحقيق مستقل يُعتد به.
ومنذ بداياتها السياسية، تقول بعض الروايات إنها حظيت بدعم مالي خارجي؛ من بينها ما يُتداول أنها تلقت ٢٥ مليون دولار من دوائر مرتبطة بالرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش لمحاربة مشروع تشافيز وقتها. لكن عند التدقيق في الوثائق المتاحة للمنظمات المانحة والدعم المالي للمجتمع المدني، لا يظهر أي تقرير رسمي بهذا المبلغ في ذلك الوقت. لذا يُمكننا وصف هذه الرواية بأنها من “الحكايات الشائعة الكبرى” في الحلبة السياسية التي تحيط بها، لكن لا يمكن اعتمادها كحقيقة مؤكدة دون تحقيق مستقل.
من جهة أخرى، يُشار إليها غالبًا بأنها من “اليمين الليبرالي” أو “اليمين الليبرالي المتشدد” في الخطاب الاقتصادي والسياسي، وهي تزعم أن إصلاحات مثل خصخصة مؤسسات الدولة وعلاقة أوثق مع الأسواق الحرة هي السبيل للخروج من الأزمة الاقتصادية التي تعصف بفنزويلا اليوم.
من أكثر النقاط التي أثارت ردود الفعل حول ماتشادو ما يتعلق بعلاقة مع حزب الليكود الإسرائيلي، في عام 2020 وقع حزبها (Vente Venezuela) ما وُصف باتفاق تعاون مع الليكود، يتضمّن أبعادًا سياسية وأيديولوجية واجتماعية وحتى أمنية (كما ورد في نشرات إعلامية ومراقبة دولية). وقد ذكرت عدة منصات إعلامية أن الاتفاق يهدف لتبادل الدعم القيمي والتنسيق في ما تُسمّيه “قيم الحرية والديمقراطية” (كما ورد في تقرير برنامج “Democracy Now!” الذي أشار إلى توقيع هذا الاتفاق عام 2020).
هذا التحالف لم يكن مجرد توقيع على ورق، بل لاحقته تصريحات من ماتشادو تقول فيها إن “صراع فنزويلا من أجل الحرية هو صراع إسرائيل أيضًا” وأنها، في حال فوزها بالرئاسة، ستعيد العلاقات الدبلوماسية الكاملة مع إسرائيل — بما في ذلك نقل السفارة إلى القدس (كما ورد في تقارير إعلامية من الشرق الأوسط ونقاشات حول جائزة نوبل التي أثارتها مواقفها المؤيدة لإسرائيل).
لكن الموقف التأييدي لحرب إسرائيل على غزة الذي تُنسب إليه لاحقًا أثار استياءً واسعًا. فقد ظهرت منشورات قديمة لماتشادو تدعم مواقف إسرائيل، وتدعو بعض الدول لتقديم دعم أمني أو عسكري في صراعها، وهو ما أثار انتقادات وجدلاً واسعًا حول مدى توافق Award السلام مع مواقف تُعتبر في سياق الصراع المسلح. (كما ورد في تحليل نُشر في NDTV يتحدث عن هذه النقدية الموجهة نحوها بعد منحها الجائزة)
ردّ جماعات مدنية وإسلامية على هذا الأمر بالاستنكار، وطلبت من اللجنة التي منحتها نوبل أن تطالبها بقطع أي روابط تمسّ بسياسات تدخل عسكري أو دعم للحروب (كما طالب بذلك مركز “CAIR” في بياناته التي أدلت بها عقب الإعلان بل إن بعض الأصوات أطلقت دعوة علنية لماتشادو بأن “تنازع الاعتراف بالدعم الذي قد يُعدّ متعارضًا مع مبدأ السلام”
إن هذا المشهد يُمثل التناقض الصارخ: شخص يُمنح جائزة للسلام، وفي سجله تصريحات وتحالفات تُربطه بسياسات قد تُعدّ عسكرية أو تصالحية مع قوى متورطة في صراعات. هذا التناقض يُطرح اليوم في النقاش العام.
حين منحتها النوبل، لم يكن الأمر مجرد تقدير رمزي فردي، بل رسالة دولية إلى فنزويلا، وإلى المعارضة، وإلى النظام الحاكم، وإلى القوى العالمية التي تراقب المشهد اللاتيني. وقد وصفت لجنة نوبل ماتشادو بأنها “مثال استثنائي للشجاعة المدنية في أميركا اللاتينية” واعتبرت أن المعارضة التي كانت متفرقة قد نجحت عبرها في استعادة روح التماسك السياسي (وفقًا لبيان اللجنة).
لكنّ التكريس الدولي لماتشادو أثار معارضة داخلية وخارجية أيضًا. فبعض النقاد اعتبروه انتصارًا دوليًا للتدخل الغربي في شؤون فنزويلا، وأن الجائزة ربما تُستخدم كأداة ضغط على النظام الحاكم. في وسائل الإعلام المعارضة للنظام والفنزويليين الموالين، يُنظر إلى ماتشادو أحيانًا باعتبارها واجهة لخط سياسي مدعوم من الخارج أكثر منه من قاعدة شعبية صلبة.
ردود الفعل في الولايات المتحدة كانت أيضاً مثيرة: في وقتٍ كان كثير من المحللين يروّجون لفكرة منح الجائزة للرئيس ترامب بسبب دوره في الاتفاق على وقف إطلاق النار في غزة (وفقًا لتقارير إخبارية إعلامية تتناقل هذه الفرضية)، جاءت المفاجأة عندما ذهبت الجائزة لماتشادو. البيت الأبيض وصف القرار بأنه يدل على أن اللجنة “اختارت السياسة على السلام” (وفقًا لتصريحات صادرة بعد الإعلان).
من جانبها، أعلنت ماتشادو أنها تُهدي الجائزة إلى الشعب الفنزويلي، وإلى الدعم الحاسم الذي تلقتْه من الرئيس ترامب (وفقًا لتقارير وكالة رويترز حول ردّها بعد الفوز)، معتبرة أن هذا التكريم يرسّخ أن قضيتها ليست فردية بل جماعية.
أما عقبة الترشيح في الانتخابات: لقد فازَت في الانتخابات التمهيدية للمعارضة عام 2023، لكن المحكمة العليا في فنزويلا منعتها من الترشّح رسميًا في انتخابات 2024، وهو ما اضطرها إلى اللجوء إلى العمل في الخفاء، والتعبير عن معارضة من خارج الساحة الرسمية (وفقًا لتقارير عدة، منها التي نشرتها الجزيرة).
ثم إن بعض الانتقادات تُوجّه لها من داخل المعارضة نفسها: إذ يتهمها خصوم بأنها تميل إلى تشكيل حكم تقليدي يُدار من فوق، أكثر من أن يكون انطلاقًا من قاعدة شعبية عريضة، وأن اتكائها على تحالفات “يمينية متشددة” قد تُبعد عنه قطاعات واسعة داخل المجتمع الفنزويلي.
حين أُعطيت جائزة نوبل للسلام لماريا كورينا ماتشادو، تحقّق لها اعتراف دولي هائل، وللامتداد الرمزي لعملها ودورها في المعارضة الفنزويلية. لكن هذا الاعتراف لا يَطمس أهمية النقد، ولا يعفي من مساءلة التحالفات والمواقف التي تبدو متناقضة مع صورة “المدافعة عن السلام”.
في المشهد الراهن، تبدو الجائزة بمثابة مضاعفة للمخاطر: فبينما توسّع منصّة ماتشادو الدولية، وتُضفي شرعية إضافية على خطابها، فإن خصومها يُشبّهونها بأنها جزء من لعبة تحالفات دولية واسعة، وأن في سجلّها مواقف يُمكن أن تُوظف ضدّها عند المراجعة.
الحقيقة هي أننا أمام شخصية مركّبة، ليست بطلة بلا شائبة، وليست خصمًا بلا نقاط قوة. وقد لا نتمكّن الآن من تأكيد كل وصف يُنسب إليها—مثل جذورها العائلية أو المبالغ المالية التي ذكرها خصومها—لكن ما نسترعي الانتباه إليه هو أن تكريمًا كهذا يُجبِرنا على إعادة النظر في معايير السلام نفسها: هل يُكافأ من يدعو إلى الديمقراطية ويُعارض الاستبداد، حتى لو تحالفت مع قوى مثيرة للجدل؟ وهل الجائزة بمقدورها أن تُسهم في تحويل الصراع إلى تسوية سلمية، أو أنها تصير جزءًا من الصراع؟
